فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: إن المعنى: أنه سبحانه لا يؤاخذ على أفعاله وهم يؤاخذون.
قيل: والمراد بذلك أنه سبحانه بين لعباده أن من يسأل عن أعماله كالمسيح والملائكة لا يصلح لأن يكون إلها.
{أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً} أي بل اتخذوا، وفيه إضراب وانتقال من إظهار بطلان كونها آلهة بالبرهان السابق، إلى إظهار بطلان اتخاذها آلهة مع توبيخهم بطلب البرهان منهم، ولهذا قال: {قُلْ هَاتُواْ برهانكم} على دعوى أنها آلهة، أو على جواز اتخاذ آلهة سوى الله، ولا سبيل لهم إلى شيء من ذلك، لا من عقل ولا نقل، لأن دليل العقل قد مرّ بيانه، وأما دليل النقل فقد أشار إليه بقوله: {هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} أي هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع ذكر أمتي وذكر الأمم السالفة وقد أقمته عليكم وأوضحته لكم، فأقيموا أنتم برهانكم.
وقيل: المعنى هذا القرآن وهذه الكتب التي أنزلت قبلي فانظروا: هل في واحد منها أن الله أمر باتخاذ إله سواه.
قال الزجاج: قيل لهم: هاتوا برهانكم بأن رسولًا من الرسل أنبأ أمته بأن لهم إلها غير الله، فهل في ذكر من معي وذكر من قبلي إلا توحيد الله؟ وقيل معنى الكلام: الوعيد والتهديد، أي افعلوا ما شئتم فعن قريب ينكشف الغطاء.
وحكى أبو حاتم: أن يحيى بن يعمر وطلحة بن مصرف قرأ: {هذا ذكر من معي وذكر من قبلي} بالتنوين وكسر الميم، وزعم أنه لا وجه لهذه القراءة.
وقال الزجاج في توجيه هذه القراءة: إن المعنى: هذا ذكر مما أنزل إلى ومما هو معي وذكر من قبلي.
وقيل: ذكر كائن من قبلي، أي جئت بما جاءت به الأنبياء من قبلي.
ثم لما توجهت الحجة عليهم ذمهم بالجهل بمواضع الحق فقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق} وهذا إضراب من جهته سبحانه وانتقال من تبكيتهم بمطالبتهم بالبرهان إلى بيان أنه لا يؤثر فيهم إقامة البرهان، لكونهم جاهلين للحق لا يميزون بينه وبين الباطل.
وقرأ ابن محيصن والحسن: {الحق} بالرفع على معنى هذا الحق، أو هو الحق، وجملة: {فَهُمْ مُّعْرِضُونَ} تعليل لما قبله من كون أكثرهم لا يعلمون أي فهم لأجل هذا الجهل المستولي على أكثرهم معرضون عن قبول الحق مستمرّون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول، فلا يتأملون حجة، ولا يتدبرون في برهان، ولا يتفكرون في دليل.
{وما أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ يُوحَى إِلَيْهِ} قرأ حفص وحمزة والكسائي: {نوحي} بالنون، وقرأ الباقون بالياء أي: نوحي إليه {أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ} وفي هذا تقرير لأمر التوحيد وتأكيد لما تقدّم من قوله: {هذا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ} وختم الآية بالأمر لعباده بعبادته، فقال: {فاعبدون} فقد اتضح لكم دليل العقل، ودليل النقل وقامت عليكم حجة الله.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كتابا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} قال: شرفكم.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال: فيه حديثكم.
وفي رواية عنه قال: فيه دينكم.
وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: بعث الله نبيًّا من حمير يقال له: شعيب، فوثب إليه عبد فضربه بعصا، فسار إليهم بختنصر فقاتلتهم فقتلهم حتى لم يبق منهم شيء، وفيهم أنزل الله: {وَكَمْ قَصَمْنَا} إلى قوله: {خامدين}.
وأخرج عبد الرزاق وعبد ابن حميد، وابن المنذر عن الكلبي في قوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ} قال: هي حضور بني أزد، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} قال: ارجعوا إلى دوركم وأموالكم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} قال: هم أهل حضور كانوا قتلوا نبيهم، فأرسل الله عليهم بختنصر فقتلهم، وفي قوله: {فجعلناهم حَصِيدًا خامدين} قال: بالسيف ضرب الملائكة وجوههم حتى رجعوا إلى مساكنهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن وهب قال: حدّثني رجل من الجزريين قال: كان اليمن قريتان، يقال لإحداهما: حضور، وللأخرى قلابة، فبطروا وأترفوا حتى ما كانوا يغلقون أبوابهم، فلما أترفوا بعث الله إليهم نبيًّا فدعاهم فقتلوه، فألقى الله في قلب بختنصر أن يغزوهم، فجهز لهم جيشًا، فقاتلوهم فهزموا جيشه فرجعوا منهزمين إليه، فجهز إليهم جيشًا آخر أكثف من الأول، فهزموهم أيضًا؛ فلما رأى بختنصر ذلك غزاهم هو بنفسه، فقاتلوهم فهزمهم حتى خرجوا منها يركضون، فسمعوا مناديًا يقول: {لاَ تَرْكُضُواْ وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ ومساكنكم} فرجعوا فسمعوا صوتًا مناديًا يقول: يا لثارات النبي فقتلوا بالسيف، فهي التي قال الله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ} إلى قوله: {خامدين} قلت: وقرى حضور معروفة الآن بينها وبين مدينة صنعاء نحو بريد في جهة الغرب منها.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {حَصِيدًا خامدين}. قال: كخمود النار إذا طفئت.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا} قال: اللهو: الولد.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن في قوله: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا} قال: النساء.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} يقول: لا يرجعون.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {لاَ يُسْأَلُ عَمَا يَفْعَلُ} قال: بعباده {وَهُمْ يُسْئَلُونَ} قال: عن أعمالهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك نحوه.
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عباس قال: ما في الأرض قوم أبغض إلى من القدرية، وما ذاك إلا أنهم لا يعلمون قدرة الله، قال الله: {لاَ يُسْأَلُ عَمَا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)}.
قوله: {بَلْ عِبَادٌ}: {عبادٌ} خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هم عبادٌ. و{مُكْرَمون} في العامَّة مخففٌ، وقراءة عكرمة مشددًا.
{لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)}.
قوله: {لاَ يَسْبِقُونَهُ}: جملةٌ في محلِّ رفعٍ صفةً لـ: {عبادٌ}. والعامَّةُ على كسرِ الباء في {يَسْبِقونه} وقُرىء بضمِّها. وخُرِّجَتْ على أنه مضارعٌ سَبَقه أي غلبه في السبق يُقال: سابقه فَسَبقه يَسْبُقه أي: غلبه في السَّبْق. ومضارع فَعَلَ في المغالبة مضمومُ العينِ مطلقًا إلاَّ في ياءَيْ العينِ أو اللام، والمرادُ: لا يَسْبقونه بقوله، فَعَوَّض الألفَ واللامَ عن الضمة عند الكوفيين، والضميرُ محذوفٌ عند البصريين أي بالقول منه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وما أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}.
التوحيدُ في كل شريعة واحدٌ، والتعبد ُ- على من أرسل إليه الرسول- واجبٌ، ولَكِن الأفعالَ للنسخِ والتبديلِ مُعَرَّضةٌ، أما التوحيدُ وطريقُ الوصول إليه فلا يجوز في ذلك النسخُ والتبديل.
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)}.
في الآية رخصةٌُ في ذِكْر اقاويل أهل الضلال والبدع على وجه الردِّ عليهم، وكَشْفِ عوراتهم، والتنبيه على مواضع خطاياهم، وأنَّه إنْ وَسْوَسَ الشيطان إلى أحدٍ بشيء منه كان في ذلك حجةٌ للانفصال عنه.
{لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)}.
أخبر أن الملائكة معصومون عن مخالفة أمره- سبحانه، وأنهم لا يُقَصِّرون في واجبٍ عليهم.
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)}.
عِلْمُه القديمُ- سبحانه- لا يختصُّ بمعلوم دون معلوم، وإنما هو شامل لجميع المعلومات، فلا يعزب عن علم الله معلوم.
قوله: {لا يشفعون إلا لمن ارتضى} دلَّ على أنهم يشفعون لقومٍ، وأنَّ الله يتقبل شفاعتهم.
قوله: {وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}: ليس لهم ذنب ثم هم خائفون؛ ففي الآية دليل على أنه سبحانه يعذبهم وأن ذلك جائز، فإذا لم يَجُزْ أن يُعذِّب البريء لكانوا لا يخافونه لعلمهم أنهم لم يرتكبوا زلةً. اهـ.

.تفسير الآيات (29- 31):

قوله تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرض كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما نفى الشريك مطلقًا ثم مقيدًا بالولدية، أتبعه التهديد على ادعائه بتعذيب المتبوع الموجب لتعذيب التابع فقال: {ومن يقل منهم} أي من كل من قام الدليل على أنه لا يصلح للإلهية حتى العباد المكرمون الذين وصف كرامتهم وقرب منزلتهم عنده وأثنى عليهم كما رواه البيهقي في الخصائص من الدلائل عن ابن عباس- رضى الله عنهما-: {إني إله} ولما كانت الرتب التي تحت رتبة الإلهية كثيرة، بعّض ليدل على من استغرق بطريق الأولى فقال: {من دونه} أي من دون الله {فذلك} أي اللعين الذي لا يصلح للتقريب أصلًا ما دام على ذلك {نجزيه} أي بعظمتنا {جهنم} لظلمه، فأفهم تعذيب مدعي الشرك تعذيب أتباعه من باب الأولى، وهو على سبيل الفرض والتمثيل في الملائكة من إحاطة علمه بأنه لا يكون، وما ذاك إلا لقصد تفظيع أمر الشرك وتعظيم شأن التوحيد، وفي دلائل النبوة للبيهقي في باب التحدث بالنعمة والخصائص أن هذه الآية مع قوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك} [الفتح: 2] دليل على فضله صلى الله عليه وسلم على أهل السماء.
ولما كان مقتضيًا للسؤال عن غير هذا من الظلمة، قيل: {كذلك} أي مثل هذا الجزاء الفظيع جدًّا {نجزي الظالمين} كلهم ما داموا على ظلمهم.
ولما أنكر سبحانه اتخاذهم آلهة من دونه تارة بقيد كونها أرضية، وتارة بقيد كونها سماوية، وتارة مطلقة، لتعم كلا من القسمين وغيرهما، واستدل على ذلك كله بما لم تبق معه شبهة، فدل تفرده على أنه لا مانع له مما يريد من بعث ولاغيره، وكان علمهم لا يتجاوز ما في السماوات والأرض، قال مستدلًا على ذلك أيضًا مقررًا بما يعلمونه، أو ينبغي أن يسألوا عنه حتى يعلموه لتمكنهم من ذلك {فاسألوا أهل الذكر} جليًا له في أسلوب العظمة: {أولم} أي ألم يعلموا ذلك بما أوضحنا من أدلته ولم يروا، ولَكِنه أظهر للدلالة على أنهم يغطون أنوار الدلائل عنادًا فقال: {ير} أي يعلم علمًا هو كالمشاهدة {الذين كفروا} أي ستروا ما يعلمون من قدرة الله فأدى ذلك إلى الاستهانة والتنقص فصار ذنبهم غير مغفور، وسعيهم غير مشكور، وحذف ابن كثير الواو العاطفة على ما قدرته مما هدى إليه السياق أيضًا، لا للاستفهام بما دل عليه ختام الآية التي قبل من البعث والجزاء المقتضي للإنكار على من أنكره، فكان المعنى على قراءته: نجزي كل ظالم بعد البعث، ألم ير المنكرون لذلك قدرتنا عليه بما أبدعنا من الخلائق، وإنما أنكر عليهم عدم الرؤية بسبب أن الأجسام وإن تباينت لا ينفصل بعضها عن بعض إلا بقادر يفصل بينها، فمن البديهي الاستحالة أن يرتفع شيء منها عن الآخر منفصلًا عنه بغير رافع لاسيما إذا كان المرتفع ثابتًا من غير عماد، فكيف وهو عظيم الجسم كبير الجرم؟ وذلك دال على تمام القدرة والاختيار والتنزه عن كل شائبة نقص من مكافىء وغيره، فصح الإنكار عليهم في عدم علم ذلك بسبب أنهم عملوا بخلاف ما يعلمونه {أن السماوات والأرض}.
ولما كان المراد الإخبار عن الجماعتين لا عن الأفراد قال: {كانتا} ولما كان المراد شدة الاتصال والتلاحم، أخبر عن ذلك بمصدر مفرد وضع موضع الاسم فقال: {رتقًا} أي ملتزقتين زبدة واحدة على وجه الماء، والرتق في اللغة: السد، الفتق: الشق {ففتقناهما} أي بعظمتنا أي بأن ميزنا إحداهما عن الأخرى بعد التكوين المتقن وفتقنا السماء بالمطر، والأرض بأنواع النبات بعد أن لم يكن شيء من ذلك، ولا كان مقدورًا على شيء منه لأحد غيرنا؛ عن ابن عباس- رضى الله عنهما- وعطاء والضحاك وقتادة: كانتا شيئًا واحدًا ملتزقتين ففضل الله تعالى بينهما بالهواء.
وعن مجاهد وأبي صالح والسدي: كانتا مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سماوات، وكذلك الأرض كانت مرتتقة واحدة ففتقها فجعلها سبع طبقات.
ولما كان خلق الماء سابقًا على خلق السماوات والأرض، قال: {وجعلنا} أي بما اقتضته عظمتنا {من الماء} أي الهامر ثم الدافق {كل شيء حي} مجازًا من النبات وحقيقة من الحيوان، خرج الإمام أحمد وغيره عن أبي هريرة- رضى الله عنهم- أنه قال للنبي- صلى الله عليه وسلم-: أخبرني عن كل شيء، فقال: «كل شيء خلق من ماء» ولذلك أجاب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الذي وجده على ماء بدر وسأله: ممن هو؟ بقوله: «نحن من ماء».
ولما كان هذا من تصرفه في هذين الكونين ظاهرًا ومنتجًا لأنهما وكل فيهما ومن فيهما بصفة العجز عن أن يكون له تصرف ما، تسبب عنه إنكار عدم إيمانهم فقال: {أفلا يؤمنون} أي بأن شيئًا منهما أو فيهما لا يصلح للإلهية، لا على وجه الشركة ولا على وجه الانفراد، وبأن صانعهما ومبدع النامي من حيوان ونبات منهما بواسطة الماء قادر على البعث للحساب للثواب أو العقاب، بعد أن صار الميت ترابًا بماء يسببه لذلك.
ولما كان من القدرة الباهرة ثبات الأرض من غير حركة، وكان الماء أدل دليل على ثباتها، وكانت الأرض أقرب في الذكر من السماء، أتبع ذلك قوله: {وجعلنا} بما لنا من العظمة {في الأرض} جبالًا {رواسي} أي ثوابت، كراهة {أن تميد بهم} وتضطرب فتهلك المياه كل شيء حي فيعود نفعها ضرًا وخيرها شرًّا.
ولما كان المراد من المراسي الشدة والحزونة لتقوى على الثبات والتثبيت، وكان ذلك مقتضيًا لإبعادها وحفظها عن الذلة والليونة، بين أنه أخرق فيها العادة ليعلم أنه قادر مختار لكل ما يريد فقال: {وجعلنا} بما لنا من القدرة الباهرة والحكمة البالغة {فيها} أي الجبال مع حزونتها {فجاجًا} أي مسالك واسعة سهلة؛ ثم أبدل منها قوله: {سبلًا} أي مذللة للسلوك، ولولا ذلك لتعسر أو تعذر الوصول إلى بعض البلاد {لعلهم يهتدون} إلى منافعهم في ديارهم وغيرها، وإلى ما فيها من دلائل الوحدانية وغيرها فيعلموا أن وجودها لو كان بالطبيعة كانت على نمط واحد مساوية للأرض متساوية في الوصف، وأن كونها على غير ذلك دال على أن صانعها قادر مختار متفرد بأوصاف الكمال. اهـ.